فصل: تحرير الكتاب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أدب الكتاب ***


المقادير التي يكتب فيها من القراطيس

قال أبو بكر‏:‏ سمعت أحمد بن إسماعيل بن الخصيب الكاتب يقول‏:‏ الأئمة يوقعون في السجلات، ويكتب الإمام في الثلثين من الطومار إلى ملوك الملك وإلى عماله، ويكتب عماله إليه في مثل ذلك، ويكاتبه وزيره في النصف في أمور العامة الديوانية‏.‏

فأما الخاص الذي يكتبه بخطه، أو يكتب بين يديه بإملائه، ففي خمسين، ويكاتبونه في مثل ذلك في الخاص والعام، إلا من كان منهم في أدنى الطبقات، فإنه لا يكاتب إلا في النصف في الحالتين جميعاً‏.‏

وتتكاتب الأكفاء في الأثلاث والأرباع وتتحمل المودة بينهم كل شيء حملته من التسمح في ذلك، والأسداس للتوقيعات‏.‏

وقال بعض الكتاب‏:‏

أنت لما ابتدأت تكتب في الأن *** صاف خفنا من قلة الإنصاف

وعلمنا بأن مثلك لا يج *** مع بين الإنصاف والأنصاف

وقال آخر وكتب إليه في سدس‏:‏

تكاتبني بالسدس جهلاً بقدره *** لئن كان في التعريف يكتب بالأمس

إذا ما التعاويذي فارق رسمه *** فليس بمأمون التغير والنكس

ولولا حنين هاجه مثل سائق *** إلى الخط في التعويذ لم يعن بالسدس

إذا صح حس المرء صح قياسه *** وليس يصح العقل من فاسد الحس

واحتج آخر في أن كتب في ظهر فقال‏:‏

كتبت إليك في ظهر لعلمي *** ومعرفتي بحبك للظهور

فقلبه ابن الرومي فقال‏:‏

عشقك الغلمان ما أم *** كنك النسوان أفن

إنما يكتب في الظه *** ر إذا أعوز بطن

وقد كره الناس الظهور، وأمر بترك استعمالها في النسخ وإنشائها، فكيف في المكاتبة‏.‏ وقيل هي تفسد النيات، وتذيع الأسرار بما في باطنها، وتشعث الخطوط، وتغض من سمو الدولة، وتحقر من قدر المعنى أكثر مما بقدر منها من الارتفاق والقيمة بينها وبين النقي‏.‏ وأكثر ما يكون إنصاف كتب مقطوعة، وإذا كانت كذلك كانت جنونا، ولهذا قال أبو تمام‏:‏

عذل شبيه بالجنون كأنما *** قرأت به الورهاء سطر كتاب

واعتذر آخر من كتابته في الظهر فقال‏:‏

إن كتابي لك في الظهر *** يخبر أني ظاهر الفقر

فاعذر بنفسي أنت من سيد *** فالعذر أولى بالفتى الحر

واعلم وإن كنت الذي علمه *** يفوق علم البدو والحضر

إن الغنى يصلح دين الفتى *** والفقر سواق إلى الكفر

الدعاء في المكاتبة وترتيبه والزيادة والنقص فيه

قال أبو بكر‏:‏ اختار مشائخ الكتاب، أن تكون كتب الوزراء النافذة عن الخلفاء بغير تاء المخاطب، ولا نون الجمع، فيقول عنه‏:‏ ‏"‏فعلت كذا أو فعلنا كذا‏"‏ بل يقول في كتبه عنه وتوقيعاته ‏"‏فعل أمير المؤمنين كذا فامتثل ما أمر به أمير المؤمنين‏"‏ وقد ذكرنا في التكاتب ما يغني عن إعادته‏.‏

ويكاتب الوزير الناس على مقاديرهم ورتبهم في السيف والقلم ومنازلهم، فدعاؤه لأمراء الأقاليم الكثيرة، المجموع لهم حربها وخراجها وسائر أعمالها كدعاء النظير إذا نقص قليلاً في صدور كتبه ويختمها بمثل ذلكن ولا بأس عندهم إن ذكر فيها تفدية‏.‏ فأما دعاؤهم له فاختاروا أن يكون بغير التصدير وبالوزارة على حسب قوة أمرهم وتعززهم ومواقعهم من حسن رأي إمامهم‏.‏ ومنهم من يدعو بالتوزير راغباً وراهباً‏.‏

وكان عبيد الله بن سليمان نقص خمارويه بن طولون في دعائه، فرد عليه مثله‏.‏ فأجابه عبيد الله بتمام الدعاء وأحال بالذنب على كاتبه‏.‏

وكان القاسم بن عبيد الله - لما استوزر مكان أبيه - يكاتب الأمير بعد بالتأمير والدعاء التام، فيكاتبه بعد بالتوزير ويتمم الدعاء له‏.‏

ومن الوزراء من يدعو لبعض هؤلاء‏:‏ ‏"‏أطال الله بقاءك‏"‏، أو ‏"‏أدام عزك‏"‏، ومنهم‏:‏ ‏"‏أدام الله عزك وأطال بقاءك‏"‏‏.‏ فأما من دون هؤلاء فيكاتبهم‏:‏ ‏"‏أعزك الله وأمد في عمرك‏"‏‏.‏ وإلى من دون هؤلاء‏:‏ ‏"‏مد الله في عمرك وأكرمك وأبقاك‏"‏ وإلى من دون هؤلاء‏:‏ ‏"‏وأبقاك الله وحفظك‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وأول من كتب‏:‏ ‏"‏عافانا الله وإياك من السوء‏"‏ معاوية‏.‏

وكتب عبد الحميد إلى صديق له‏:‏ ‏"‏جعلت فداك من السوء كله‏"‏‏.‏

وحدثني أبو القاسم إسماعيل المحاملي قال‏:‏ حدثنا أبو العيناء قال‏:‏ كتبت إلى صديق لي‏:‏ ‏"‏جعلت فداك من السوء كله‏"‏، فلقيني بعد ذلك فقال لي‏:‏ أنا أستفيد منك أبداً لا عدمت ذلك، وقد كتبت إلي‏:‏ ‏"‏جعلت فداك من السوء كله‏"‏‏.‏فلقيني بعد ذلك فقال لي‏:‏ أنا أستفيد منك أبداً لا عدمت ذلك، وقد كتبت إلي‏:‏ ‏"‏جعلت فداك من السوء كله‏"‏، أعزك الله ما السوء كله‏؟‏ قال‏:‏ فعجبت وضحكت وقلت‏:‏ نلتقي بعد هذا وتقع الفوائد‏.‏

ولا يتسمى الوزير ولا يتكنى على عنوان كتابه إلى أمثال هؤلاء، ولكن يجعل العلوان‏:‏‏"‏ لأبي فلان‏"‏ في أحد سطريه، وفي السطر الآخر‏:‏‏"‏فلان بن فلان‏"‏‏.‏

وقال طاهر بن الحسين - وهو يحارب الأمين، وكان أبو عيسى بن الرشيد معه - لكتابه‏:‏ اكتبوا إلى أبي عيسى كتاباً تتقربون به إليه وتتباعدون، ولا تطعموه ولا تؤيسوه‏.‏ فقلوا‏:‏ إن رأى الأمير أن يعلمنا كيف ذلك ويحد لنا‏.‏ فقال اكتبوه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

حفظك الله وأبقاك وأمتع بك، وعزيز علي أن أكتب إلى صغير منكم أو كبير بغير التأمير، وقد بلغني عنك ممالأة للمخلوع‏!‏ فإن كان ذلك منك ميلاً على أمير المؤمنين فقليل ما أكاتبك به كثيرا، وإن كنت كما قال الله‏:‏ ‏"‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏"‏ فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته‏.‏

وقال بعض الكتاب‏:‏ ما أدري ما معنى المصارفة في تقديم إطالة البقاء في ‏"‏أطال الله بقاك وأعزك‏"‏، وتأخيره في ‏"‏أعزك الله وأطال بقاك‏"‏ الأفضل التقديم والتأخير في أنفسهم، وإلا فالعطف بالواو، وهي تجيء للاشتراك فيدخل الثاني من الدعاء في معنى الأول، وقد قدم الله عز وجل، لما كان العطف بالواو مؤخراً على مقدم، فقال‏:‏ ‏"‏واسجدي واركعي مع الراكعين‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏يا معشر الجن والإنس‏:‏‏.‏‏.‏

وعلى أن المؤخر قد قدم، وأخر المقدم بغير الواو من حروف العطف، قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون‏"‏، قالوا‏:‏ وإذا تولى لم يعرف شيئاً والمعنى مقدم ومؤخر كأنه فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏"‏ والدين قبل الوصية، وهذا كثير في الشعر واللغة، قال‏:‏ فلم تستن الكتاب بذلك، وصارت التقدمة لحرف على حرف تزول، إذ قدم الثاني من اللفظ على الأول‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا أعرف الصرف بين ‏"‏أطال الله بقاك‏"‏ وبين ‏"‏مد الله في عمرك‏"‏ إلا ما رتبوه واستعملوه ورسموه‏.‏ ومن يصارف في القليل من هذا ويشح عليه أكثر‏.‏

وكان أحمد بن ثوابة أشد الناس في هذا، كتب إليه ابن أبي خالد رقعة يؤانسه فيها ذكر أولادهما فقال‏:‏ ‏"‏ولو كانوا بني وبنيك‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يقدم ذكر بنيه على بني لا كاتبته أبداً‏.‏

واجتنبوا أن يقولوا للوزير في الدعاء ‏"‏جعلني الله فداءك‏"‏ من أجل أن الشيء إنما يفدى بمثله أو بأجل منه، وليسوا كذلك‏.‏ وفي هذا الذي ذهبوا إليه خبر مليح اعترضني حدثنا به أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال‏:‏ حدثني عبد الله بن شبيب قال‏:‏ كتب إلي بعض إخواني من البصرة وقد تأخير عنه كتاباً أوجز فيه وملح‏:‏ أطال اله بقاك كما أطال جفاك، وجعلني فداك إن كان في فداؤك، وقال‏:‏

كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً *** إليك لكنت سطراً في الكتاب

قال محمد بن يحيى الصولي‏:‏ والبيت لأبي تمام‏.‏

وكتب آخر إلى أحمد وإبراهيم ابني المدبر، وقد نالتهما محنة وردفتهما نعمة‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏

لو قبلت عنكما، أو دانيت قدركما، لقلت‏:‏ جعلني الله فداءً لكما‏.‏ ولكني لا أجزي عنكما، ولا أقتل بكما‏.‏ وقد بلغني المحنة التي لو مات إنسان بها لكنته، ثم اتصلت بي النعمة التي لو طال إنسان فرحاً بها لكنته‏.‏ وتحت هذه‏:‏

وليس بتزويق اللسان وصوغه *** ولكنه قد خالط اللحم والدما

حدثنا بذلك إبراهيم بن المدبر، وهذا رأي لم يكن القدماء يرونه، بل كانوا يخاطبون الخلفاء بالتفدية فضلاً عن الوزراء‏.‏

وحدثني محمد بن يزيد المبرد قال‏:‏ سأل المأمون أبا محمد يحيى بن المبارك عن شيء فقال له‏:‏ ‏"‏لا، وجعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين‏"‏، فقال‏:‏ لله درك ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظك‏.‏ ووصله وجمله‏.‏

قال‏:‏ وهذا لفضل أدب المأمون، علم أن الفدية من أخلص الدعاء، والطف التوسل، وأن غاية موجود الإنسان، وأنفس ذخائره نفسه، جلت أم قلت‏.‏ وقد قرئ في الكتاب خير الأولين والآخرين، وأجلهم قدراً، وأعظمهم خطراً، محمد صلى الله عليه وسلم قال له بن ثابت في جوابه لأبي سفيان بن حرب‏:‏

هجوت محمداً فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بند *** فشركما لخيركما الفداء

فإن أبى ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وفاء

وقد اختار الكتاب أن يسقطوه من مكاتبة القضاة هذا الدعاء، وذهبوا إلى انه ليس من أبواب حقيقة الجد‏.‏ وقال قمامة كاتب عبد الملك بن صالح‏:‏ يجب أن يوفر التأييد على أصحاب السيوف دون القضاة، لأنهم أولى بأن يدعى لهم بالقوة‏.‏ قال له عمرو بم مسعدة‏:‏ القضاء إلى التأييد في أحكامهم أحرج، لأنها في الدماء تمضي وفي الفروج والأموال‏.‏

وكتب ابن ثوابة إلى عبيد الله بن سليمان يعتذر إليه من تركه مكاتبته بالنقدية‏:‏ ‏"‏الله يعلم - وكفى به عليما - لقد أردت مكاتبتك بالتفدية فرأيت هيباً أن أفديك بنفس لابد لها من الفناء، ولا سبيل لها إلى البقاء‏.‏ ومن أظهر لك شيئاً يضمر خلافه فقد غش وألام، إذ كانت الضرورة توجبه، وتحقق أنه ملق لا يتحقق، وعطاء لا يتحصل؛ وإن كان عند قوم نهاية من نهايات التعظيم، ودليلاً من دلالات الاجتهاد وطريقاً من طرق التقرب‏"‏‏.‏

وكتب ابن القرية إلى بعض أصحابه، وذكر نفسه فقال‏:‏ ‏"‏وجعلها فداءك طيبة لك بذلك‏"‏‏.‏

وما أحسن كتاباً كتبه أحمد إسماعيل إلى بعض الكتاب، وقد نال رتبة فنقص إخوانه في الدعاء‏:‏ ‏"‏الكبر أعزك الله معرض يستوي فيه النبيه ذكراً، والخامل قدراً‏.‏ ليس أمامه حجاب يمنعه، ولا حاجز يحظره‏.‏ والناس اشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبعاً لمعائبه، وتصفحاً لأخلاقه، وتنفيراً عن خصاله؛ منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقط لا يكترث به‏.‏ فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذم يسرع إليه‏.‏ والحال التي جددها الله لك، وإن كنت أراها دون حقك، وناقصة عن همتك، وأرضاً عند سمائك؛ حال الحاسد عليها كثير، وآمال المنافسين إليها تسير‏.‏

والمودة تقتضي النصيحة، والمقة تدعو إلى صدق المشورة‏.‏ وليس يحرس النعمة ويحوطها، ويحسم الأطماع ويصرفها، ويستجيب القلوب النافرة ويطلقها؛ إلا ترك ما أراك تستعمله في ترتيب المكاتبة، وتمييز المخاطبة، والمحاضة في الفاظ الدعاء، والبخل بيسير الثناء‏.‏ وتطبيق إخوانك فليس من حقك أن تحطهم حال رفعتك، وأن تنقصهم دولة زادتك‏.‏ كما ليس من حقك عليهم أن يغالطوك فيمسكوا عن خطابك، ويتحاموا عن عتابك‏"‏‏.‏

تحرير الكتاب

قال أبو بكر تحرير الكتاب خلوصه كأنه خلص من النسخ التي حرر عليها‏:‏ وصفا عن كدرها‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏إني نذرت لك ما في بطني محرراً‏"‏، قال المفسرون‏:‏ جميعاً خالصاً لبيت المقدس لا تشغله بغير خدمته، وحررت الغلام جعلته حراً بين الحرية والحرار‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فما رد تزويج عليه شهادة *** ولا رد من بعد الحرار عتيق

قد صار الغلام حراً خلص من العبودية‏.‏ ورجل حر خالص من العبودية‏.‏ ورجل حر خالص من العيوب‏.‏ وطين حر خالص من الحمأة والرمل‏.‏

وسأل أعرابي فقال‏:‏ ‏"‏أما تتفضل على حر كريم الحرورية، أو مولى كريم المولوية، أو عبد كريم العبودية‏"‏‏.‏

وقال بعض الكتاب‏:‏ ليس الكتاب كل وقت على غير نسخة، ويحرر بصواب، وكل أوان، لأنه ليس أحد أولى بالأناة والروية وتوقي الاغترار، من كاتب يعرض عقله وينشر بلاغته، فينبغي له أن يعمل النسخ ويخمرها، ويقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس له أعداء علماء بكتابه متفرغون له، منتقدون عليه‏.‏

وقال آخر‏:‏ إن الابتداء بنظم الكلام ونثره فتنة تروق، وحدة تعجب‏.‏ فإذا سكتت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس، فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه مساوياً لغمه بإساءتهن فقد قال الخوارج لعبد الله بن وهب الراسبي‏:‏ نبايعك الساعة فقد رأينا ذاك‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏دعوا الرأي يبلغ أناه، ولا خير في الرأي الفطير‏"‏‏.‏ وقال معاوية لعبد الله بن جعفر‏:‏ ما عندك في كذا‏؟‏ فقال‏:‏ أريد أن أصقل عقلي بنومة القائلة، ثم أروح فأقول بعد تأملي بما عندي‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن الحديث يقف القوم خلوته *** حتى يعبره بالسبق مضمار

فعند ذلك تستعلي بلاغته *** أو يستمر به عي وإكثار

وكان قلم ابن المقفع يقف كثيراً فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ‏"‏عن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لتحيره‏"‏‏.‏

والكتاب يتصفح أكثر من الخطاب لأن الكاتب والمخاطب مشافه مضطر، ومن يرد عليه كتابك ليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت، وإنما ينظر أصبت أم أخطأت، أو أحسنت أم أسأت‏؟‏ فإبطائك غير قادح في إصابتك، كما أن إسراعك غير معيب على غلطك‏.‏

ووصف بعض الكتاب النسخ فقال‏:‏ ينبغي أن يصحبها الفكر إلى استقرارها، ثم تحرر على ثقة تصحبها، وتتأمل بعد التحرير من أولها إلى آخرها‏.‏ فقد كتب للمأمون مصحف اجتمع عليه عليه، فكتب‏:‏ بسم الله الرحيم وأغفل الرحمن فإن العين لم تعتبر ذلك حتى فطن هو‏.‏

وقال محمد بن عبد الملك للحسن بن وهب‏:‏ حرر هذه النسخة وبكر بها فتصبح بها‏.‏ فقال له محمد‏:‏ قد كانت النسخة تامة فلم تصبحت‏.‏ فقال‏:‏ حتى تصفحت‏.‏

وحدثني أحمد بن إسماعيل قال‏:‏ كان بعض الأغبياء ينظر في نسخة بعد نفوذ الكتاب فقيل له‏:‏

مستلب اللب معنى الشباب *** عذبه الهجر أشد العذاب

يؤمل الصبر وأنى له *** به وقد مكن منه التصاب

كناظر في نسخة يبتغي *** صلاحها بعد نفوذ الكتاب

قال بعض الكتاب‏:‏ كانوا يسمون المحرر الإمام لأنه يأتي من الخط بما يؤتم‏.‏ به قال‏:‏ ومن هذا كتب الصبي أمامه إنما هو ما يأتم به ويتعلم عليه‏.‏

من زيد في دعاء المكاتبة له فشكر

قال الصولي حدثنا محمد بن زياد أبو عبد الله الزيادي قال‏:‏ كان العتبي محمد بن عبيد الله صديقاً لعمرو بن عثمان القيني فكتب إليه العتبي كتاباً فزاده في الدعاء فكتب إليه عمرو‏:‏

يا ابن الذوائب من قريش والذرى *** وسليل سادة ساكني البطحاء

حاشا لمثلك أن يراني قائلاً *** بكرامة تزري لديه برائي

لم ترض إذ كنيتني وبدأت بي *** حتى دعوت الله لي ببقائي

ولو اقتصرت على التي هي قيمتي *** فيما بتت قضية الحكماء

لكتبت لي عمرو بن عثمان ولم *** تتبعه في العنوان حرف دعاء

فاترك جعلت فداك إكرامي بماأخشى به عند الورى استغباني

فالعين تصغر أن تقدمها على *** أولاد حرب السادة الكبراء

حلوا من العز المنيع نيافة *** يحمون غيرهم ذرى العلياء

حدثني أحمد بن يحيى الأسدي قال‏:‏ كتب إلي الحسين بن سعد فنقصني في الدعاء في الدعاء، فكتبت إليه‏:‏ قد علمت أعزك الله أن السبب في العداوة بين محمد بن عبد الملك الزيات وإبراهيم بن العباس الصولي، أنه لما ولي وزارة المعتضد، نقص إبراهيم عما يستحقه من الدعاء، فلم تحتمل ذلك نفسه ورياسته وموضعه من الصناعة والدولة، فعاتبه في ذلك فلم يعتبه، فألهب له نار هجاء لا يطفيها الدهر، وعلامة ذلك قوله في كلام منثور قد ذكره ولي هذا الأمر، فما ظن أن الرياسة تنجذب إليه، ولا أن العز يتحصل له بحط إخوانه عن منزلتهم، ونقصهم عن مرتبتهم، فبخسني في المكتابة، وأساءني في المعاملة، في كلام له طويل، ثم نظم ذلك في شعر فقال‏:‏

من رأى في الأنام مثل أخ لي *** كان عوني على الزمان وخلي

رفعته حال فحاول حطي *** وأبى أن يعز إلا بذلي

وكان الخطاب في أول الأمر، ثم أنحى عليه بالهجاء‏.‏

فافتقد - أعزك الله - إنصاف إخوانك وتجنب ظلمهم يصف لك غدير ودهم‏.‏

وحدثنا محمد بن العباس الشلمغاني، قال‏:‏ لما ولي ابن بشر المرثدي كتابة الموفق بالله نقص أحمد بن علي المازراني في الدعاء حين كاتبه فكتب إليه‏:‏

كلما رمت أن أخلف من كا *** ن أمامي خلفت عمن ورائي

انقصت الدعاء لي منك لما *** زادك الله رفعة في دعائي

فلئن تم ما أراه وأصبح *** ت‏:‏ وزيراً لتطعمني جزائي

قال‏:‏ فاعتذر إليه وزاده في الدعاء‏.‏

وكان هذا في كلام منثور لمن كان قبل المازراني‏:‏ وكنت آمل لك الرفعة، ولم أدر أنها تكسيني الضعة، وأرجو لك الثروة ولم أدر أنها تؤديني إلى الإضافة، فكان المنى طرد العنى، والدعاء سبب الثراء‏.‏

وكتب أبو حفص عمر بن أيوب إلى أبي الحسين أحمد بن محمد بن المدبر يعاتبه في أن دعا له ‏"‏مد الله في عمرك‏"‏‏:‏

يا جواداً بالثنا *** وبخيلاً بالعطا

إن ‏"‏مد الله في عمرك‏"‏ من كتب الجفا

ليس يستعمل هذا الصدر بين الأصفيا

فتفضل يا فتى الناس بتفخيم الدعا

وكتب أحمد بن إسماعيل إلى صديق له نقصه في دعائه ولحن في كتابه‏:‏

وما أنا والكتاب إلى صديق *** أدين من الوفاء بغير دينه

أعظمه ويحقرني وأدعو *** له باللفظ يدعو لي بدونه

وينقصني ولم أنقصه حقاً *** ويخشن لفظه من بعد لينه

فقام كتابه بالرد عني *** لكثرة ما تضمن من لحونه

وقال أيضاً لآخر فعلبه مثل فعله‏:‏

رأيت الرياسة مقرونةً *** بلبس التكبر والنخوه

إذا ما تقمصها معجب *** تتايه في الجهل والخلوه

ويقعد عن حق إخوانه *** وكلهم مسرع نحوه

قالوا‏:‏ وكما أن النقص عن الرتبة مذموم فكذلك طلب الزيادة مكروه، لأن من طالب من الدعاء بما فوق محله، تعرض لحطيطته من استحقاق‏.‏ وإسقاط الترتيب جحد للحقوق، وإلحاق للجليل بالدقيق‏.‏ قال‏:‏ وأنشدني علي بن محمد بن نصر لنفسه في رجل نقصه في الدعاء‏:‏

لساني بالثناء عليك رطب *** وبالمكروه إن أحببت عضب

أتنقصني الدعاء وذلك شيء *** على مثلي من الأحرار صعب

فإن عاودته فأجبت عنه *** فما لك إن أسأت إلي ذنب

وكتب عبد الصمد بن المعدل إلى صديق له كتاباً فيه‏:‏ ‏"‏وأمتع بك‏"‏ فكتب إليه عبد الصمد، وقد روي هذا لغيره‏:‏

أحلت عما عهدت من أدبك *** أم نلت ملكاً فتهت في كتبك

أم هل ترى أن في مكاتبتي ال *** إخواني نقصاً عليك في حسبك

إن جعا كتاب ذي أدب *** يكون في صدره‏:‏ وأمتع بك

أتعبت كفيك في مكاتبتي *** حسبك مما يزيد في تعبك

ويروى هذا الجواب عن هذا‏:‏

كيف يحول الإخاء يا أملي *** وكل خير أنال في سببك

إن كان ذنباً جناه ذو ثقة *** فعد بفضل عليه من أدبك

فاعف فدتك النفوس عن رجل *** يعيش حتى الممات في كنفك

وقد يزيد الرئيس تابعه في الدعاء إذا كان مغيظاً عليه لشيء ضره أو خالفه فيه، فيجري ذلك مجرى الاستهزاء به وليس ذلك مما ذكرناه أولاً‏.‏

وكتب بعض الكتاب إلى بعض الأخلاء من إخوانه، وقد زاده في الدعاء‏:‏ ‏"‏علي - أعزك الله - الإعظام والهيبة في هذه الحال، إلى ما لا لم أزل عليه قبلها من الإخلاص والطاعة، وعليك أن لا يمنعك النظر إلي بعين المودة، من الأخذ مني لنفسك بحق الرياسة، ومن أطاعك لها رجاء أو هيبة فإني أطيعك لها وداً ومحبة‏"‏‏.‏